دينو كامبانا: قصائد مختارة
دينو كامبانا شاعر إيطالي ( 1885- 1932) اختار حياة التشرد ورفض التقاليد وقد قيل عنه إنه كان وبقي منفياً ومنبوذاً وحضوراً غير مريح وصعب التصنيف في الأدراج مسبقة التبويب للتاريخ الأدبي والسبب هو أنه كان شاعراً مبدعاً وإنساناً معقداً تَمثَّل أسطورة الشاعر المجنون.
سافر الشاعر متشرداً على قدميه في السنة الأخيرة من دراسته الثانوية ووقبض عليه وسجن نتيجة تورطه في مشاجرات. ذهب إلى فرنسا وأمريكا الجنوبية حيث أقام في الأرجنتين. سجن فيما بعد لمدة ثلاثة أشهر في بروكسل ونفي إلى تورناي بسبب غرابة أطواره.
في ١٩١٤ طبع دينو كامبانا ديوانه الوحيد “أناشيد أورفية” بعد أن اتفق مع ناشر محلي، وعمد إلى بيع الكتاب بنفسه متجوِّلاً بين المدنِ والحانات، وعندما كان يطلب شخص ما شراء نسخة كان كامبانا يتملاه جيداً قبل أن يبيعه الديوان، وأحياناً كان يمزِّق بضع صفحات وفي ظنه أنَّ هذا الزبون لن يفهمها.
في كانون الثَّاني من عام 1918م وُضعَ الشَّاعر المجنون بشكلٍ نهائيٍّ ورسميٍّ بين أشباهه في مُستشفى كاستِل بولتشي للمجانين في سِتِّيمو التَّابعة لمقاطعة بادِيا وهو في الثالثة والثلاثين من عمره حيثُ توقف عن الكتابة نهائيَّاً وأمضى الأربع عشرة سنةً الأخيرة من حياته بين المستشفى والأطباء النَّفسيِّين. في آذار من عام 1932م توفي كامبانا وهو في السابعة والأربعين بإثر مرضٍ غامضٍ ومفاجئ؛ وكان موته أشبه بالاختيار الشخصي إذ رفض أن يعالَج وهو في الرمق الأخير. بهذا المشهد، خُتمتْ مأساةُ من يعتبره الكثيرون رامبو إيطاليا وآخِرَ شعرائها الكِبار.
وهذا الغَسَق المتوسِّطيِّ
غسقٌ متوسطيٌّ أبديٌّ يتكرَّرُ في الأصوات التي تُرقَّى في المساء، بالمصابيح التي تُعَلَّى؛ تُرى مَن رفعكَ على مسرح السماء هكذا أكثر اتساعاً واشتعالاً من شمسٍ ليليَّةٍ أيها الصيفُ المتوسِّطيِّ؟ وكيفَ ينالُ الفرَحَ من لم يحظَ بفرحِ ساحاتِك، ومُدُنِك المُشرَّفة عالياً بالحرب حيث تُمجَّدُ نهاراتك الطويلة بأشباحِ الذَّهب، فيما عندَ ظلالِ فوانيسكَ الخضراء في المرمرِ المشغول بالرَّقشِ العربيِّ أسطورةٌ تُحتَضَنُ لاويةً أذرعَ الرُّخامِ نحوَ خيالاتكَ المذهَّبة، أيُّها الصَّيفُ المتوسِّطيُّ الليليُّ؟ كيفَ ينالُ الفرَحَ من لم يحظَ بفرحِ ساحاتِك؟ ودروبِكَ المُلتوية بين قصورٍ وقصورٍ بَحريَّة حيثُ الأسطورةُ تُحتَضَن؟ بينما في قبابِكَ تُحتَضَنُ أسطورةٌ أخرى تتدلَّى لتضيءَ المصباحَ الهائلَ المُنفرِد الرَّائقَ والتَّكعيبيَّ بحوافيَ خضراء؟ وها عندَ مرفأكَ المتغايمِ بالسَّواري، عندَ مرفأكَ المتغايمِ بالحِباليَّاتِ الرَّخوةِ المذهَّبة، تلوحُ لي عبرَ دروبكَ هيئاتٌ شابَّةٌ تختالُ في مَيسٍ فادِحٍ، كمثلِ بشيراتٍ للحُبِّ بجمالهنَّ الأبديِّ يلُحْنَ كاشفاتٍ في المَمرِّ الوجهَ الذي لإنسانٍ مُمَجَّد، الوجهَ النَّقيَّ حيث العينُ تضحكُ في الإهليلجِ الطَّريِّ والخفيف. القياثرُ تُعزَفُ كُرمى لِمَيْسِ الآلِهة. عطورٌ مُنوَّعة تطوفُ في الفضاء، واتِّساقُ القيثارات يزدادُ عذوبةً إذ يجيءُ من زُقاقٍ غامضٍ وسطَ الصَّخَبِ المتناغِم في الدَّرب التي تهرَعُ منحدرةً نحوَ البحر. الشَّاراتُ الحمراءُ للحوانيتِ بشارةٌ تَعِدُ بنبيذِ الشَّرق المجلَّلِ بسطوعٍ لألاءٍ عميقٍ كبريقِ الأوبال، أمَّا أمامي أنا المُرتجِف فكانت الحياةُ تعبُرُ في هيئاتٍ أبديَّةٍ صافية. وهذي التَّمتمةُ المتواصلة، الثَّاقبة والمُكربة، للبحر، سرعانَ ما همدَتْ عند زاويةِ أحدِ الدُّروب: هَمَدَتْ، فتجلَّتْ، ثمَّ سرعانَ ما هَمَدَتْ!
آه! إلهُكَ يا ذهبَ الغَسَقِ يُقبِّلُ الأشكالَ الكُبرى الكالِحة فوقَ جُدرانِ العِماراتِ العالية، الأشكالَ الكُبرى التي تشتهيهِ كاشتهاءِ ذكرى مجدٍ وفرحٍ بائدة. قصرٌ مُستَهجنٌ من القرن السَّابع عشرَ ينتصبُ على زاويةِ أحدِ الدُّروب، نبيلٌ ومزهوٌّ، مزهوٌّ بنبالتهِ المتوسِّطيَّة العتيقة. وعلى الشُّرفاتِ الصَّغيرة تلتفُّ دعاماتُ الرُّخام على نفسِها بغرابة. والنَّافذةُ الخضراء الكُبرى تنغلقُ في سرِّ مصراعيها على البصَّارةِ القُلَّب، الطَّاغيةِ الرَّشيقةِ السَّمراء المُورَّدة، فيما الدَّربُ الباروكيُّ يتنفَّسُ حياةً مزدوَجة: في الأعلى، بين الرُّقوشِ الجِبسيَّةِ لإحدى الكنائس، هي ذي الملائكةُ المُكتنزةُ والبيضاء تتخفَّفُ من أبَّهتِها المعهودة، وفي الدَّربِ التي في الأسفل ها هنَّ الفتياتُ المتوسِّطيَّات، المُخاتلاتُ السَّمراوات، المجلوَّاتُ بالظِّلِّ وبالضَّوء- ها هنَّ يُهسهسنَ للأذُنِ بما يشبهُ هسيسَ أجنحةٍ مسرحيَّةٍ تفرُّ من المُلاحقَاتِ نحوَ جحيمٍ ما وسطَ انفجارِ الغبطةِ الباروكيَّةِ هذا: على حين كلُّ شيءٍ، كلُّ شيءٍ، كانَ يتغرَّقُ في الصَّخبِ العَذبِ لِنَفْضِ أجنحةِ الملائكة التي تملأ الدَّرب.
وأنتِ، غنِّي أغنيتَكِ يا جِنَوى
الغَمامةُ صُلِبَتْ في الفضاءات
بعيداً فوقَ المشهدِ البحريِّ الصَّامت
المُطلَقِ والمُغلَقِ في الحُجُبِ النَّائية،
وعادَتِ الرُّوحُ المترحِّلة التي
بدا كلُّ شيءٍ حولَها مُبهَمَ الوجود:
الحديقةُ محظيَّةٌ بحُلمها الأخضر
في التَّجلِّي الذي يفوقُ القدرةَ البشريَّة
لتماثيلِها الجليلةِ اللألاءة:
وسمعتُ غناءً، سمعتُ أصواتَ شُعراء
تجيءُ من الينابيع ومن نُصُبِ أبي الهَولِ
الوديعةِ عندَ الواجهاتِ المرقوشة،
تجيءُ من النِّسيانِ الأوَّلِ الذي
لا يَني يوسِّعُ العطايا للخضوعِ البشريِّ:
آه، منَ المتاهاتِ السِّرِّيَّةِ خرجتُ:
كانَ بُرجٌ أبيضُ يعلو في الفضاء:
غيرُ قابلةٍ للحصرِ الأحلامُ البيضاءُ للصَّباحات
إذ تتراءى جهةَ البحرِ،
البحرِ المُجنزرِ في البعيد [وهوَ] يتبدَّدُ
كمثلِ زوبعةِ أصواتٍ غامضة.
من بين أشرعةِ الزَّبد كنتُ أسمعُ المصوِّتَ.
ملآنةٌ كانت شمسُ أيَّار.
****
أسفلَ البُرجِ الشَّرقيِّ، بينَ المِصطباتِ الخضراء في اللوحةِ الرَّماديَّة،
تتفشَّى السَّاحةُ نحوَ البحرِ الذي يحشدُ المراكبَ،
بلا نهايةٍ يضحكُ القصرُ الأحمر المُسلسَلُ الأقواس
برواقهِ العِقْديِّ المُقَنْطَر الكبير:
كمثلِ شلَّالاتِ نياغارا
يغنِّي، يضحكُ، ينوِّعُ سنفونيَّتَه الرَّاسخة المُخصِبة والمُلحَّة زُلفىً للبحر:
وأنتِ، غنِّي أغنيتَكِ يا جِنَوى!
****
داخلَ غارٍ من الخَزَف،
مُرتشفاً قهوتي
كنتُ أراقبُ من خلفِ البلَّورِ الحشدَ الصَّاعدَ في عَجَلٍ
بينَ البائعاتِ المُتماثلاتِ الهَيئة، الباسطاتِ
فاكهةَ البحرِ بصيحاتهنَّ المبحوحة إذ يتداعَين
فوقَ الميزانِ السَّاكن:
هكذا أتذكَّرُكِ، وهكذا أراكِ من جديد، جليلةً
في عليائكِ عبرَ الصَّعْداتِ العنيفة
نحوَ البابِ المُشرَع
على الأزرقِ المسائيِّ،
بديعةً بغنائمكِ الخُرافيَّة
وسطَ البروجِ المعرَّاةِ على المُطلَق،
أنتِ التي فيكِ، حواليكِ، تتعشَّقُ
حُمَّى الحياة الأصلُ:
عبرَ أزقَّتكِ الزَّلقة ذاتِ الفوانيس
تُردِّدُ المومساتُ مقطوعاتهنَّ القصيرة،
ومن أغوارِكِ يهبُّ النَّسَمُ البحريُّ بلا توقُّف.
****
عبرَ الأزقَّةِ البحريَّة، في المساءِ الغامضِ،
كانت الرِّيحُ تتصيَّدُ بينَ الفوانيسِ
الدَّوزَناتِ الموسيقيَّةَ لحباليَّاتِ المراكب:
كانَ للقصورِ البحريَّةِ زُخرفاتٌ عربيَّة
تلوحُ في الغَبَشِ الواهنِ،
وكنتُ أنا أمضي رفقةَ المساءِ الغامض:
رافعاً عينيَّ إلى فوق، جهةَ آلافِ
وآلافِ وآلافِ العيونِ الرَّقيقةِ الحاشية
للأخيولاتِ الهائمة في السَّموات:.......
[حينما]
على نحوٍ إيقاعيٍّ حُلوٍ
كانت الرِّيحُ،
بملوحتها العالية، تتظاهرُ أنَّها طيفُ غبطةٍ بيضاء
وكمثلِ قضاءاتٍ لا تتعب
كانت الغيومُ وتلكَ النُّجومُ داخلَ السَّماء المسائيَّة
داخلَ الزُّقاق البحريِّ العالي المُلوحة
داخلَ الزُّقاقِ المورَّد العالي الملوحة
داخلَ الزُّقاقِ المُحمَّرِ بفوانيس كأنَّها أجنحةٌ حمراء
تُزخرفُ بالرَّقشِ العربيِّ الغَبَشَ الواهنَ،.......
الذي يرتقي الزُّقاقَ البحريَّ العالي الملوحة
أبيضَ، خفيفاً، ومتذمِّراً!
’’بينَ الأجنحةِ الحمراء للفوانيس
أبيض مُحمرٌّ في ظلِّ الفانوس
الغَبَشُ الأبيضُ الخفيفُ والرَّاعشُ إذ يرتقي:...‘‘
الآنَ، حقَّاً، في حُمرةِ الفانوسِ
الغَبَشُ أبيضُ بشقِّ الأنفُس،
أبيضُ.......
أبيضُ حيثما في حُمرةِ الفانوس
أبيضُ وبعيدٌ هو الآخَر
الصَّدى المَبهوتُ إذ يضحكُ ضحكتَهُ الوهميَّة:
الصَّدى بشقِّ الأنفُسِ
أبيضُ وخفيفٌ ومبهوتٌ إذ يرتقي.....
الآنَ، حقَّاً، كلُّ شيءٍ حواليَّ
يُشعشعُ المساءَ الغامضَ:
تختلجُ الفوانيسُ
بالوجيبِ في قلبِ الغَبَش.
وفي البعيد، جلاميدُ الصَّخبِ
تتساقطُ داخلَ الصَّمتِ المَهيب، سائلةً عمَّا:
إذا كانَ الضَّحكُ لا يزالُ يأتي
منَ البحرِ....
وهل كانَ المساءُ
يُصغي
بلا كَلَلٍ: لقضاءاتِ الغيومِ
هناكَ في الأعلى
وسطَ السَّماءِ النَّجميَّة.
****
هو ذا المركبُ يرسو في الميناء،
في الشَّفقِ الذي يبرُقُ
في الأشجار المرتخيةِ بثمارِ الضَّوء،
في المشهدِ الأسطوريِّ
لسُفُنٍ تلِجُ حضنَ المُطلَق
في المساء
في غبطةِ المساء السَّاخن، المضيء
في سُرادقٍ، في سُرادقٍ عظيمٍ
منَ الماسِ مُنبسِطٍ أعلى الشَّفق،
وسطَ ألفِ وألفِ ماسةٍ في سرادقٍ عظيمٍ ومتَّقِدٍ
يُنزِّلُ المركبُ وسَقَه
بقعقعةٍ مُتواصلة،
وبلا تعبٍ يتقلَّدُ مرساه
الرَّايةُ أنزِلتْ والبحرُ والسَّماءُ الآنَ من ذَهَب
وفوق المَكْسَرِ يركضُ الأطفالُ ويصيحون
بصيحاتِ الفَرَح.
زُمرةً زُمرة يغامرُ المسافرون
بولوجِ المدينةِ المدوِّية
فيما هيَ تبسطُ دروبَها وساحاتها:
الضَّوء المتوسِّطيُّ العظيم
مصبوبٌ الآنَ في مِصْهَرِ الرَّماد:
على امتداد الأزقَّة العتيقةِ والعميقة
يُسمَعُ صخبُ الحياة، وتُلتَقَطُ غبطةٌ قويَّةٌ وعابِرة:
سُرادِقٌ طافحٌ بذهبِ البهجة
هي السَّماءُ حيثُ الشَّمسُ الخصبةُ
تتركُ غنائمها الثَّمينة
والمدينةُ تَحتضنُ
وتشتعل
واللهبُ يُدغدِغُ ويتشرَّبُ
الآثارَ المجيدةَ للشَّمس،
وينسجُ كفناً من النِّسيان
الإلهيِّ لأجلِ البشرِ المُتعَبين.
مفقودةٌ الآنَ في الشَّفقِ الدَّاوي
ظلالُ المسافرين
الماضينَ في استعلاءٍ
مُريعينَ وغرائبيِّين كأنَّهم عميان.
****
رحيبٌ هوَ، داخلَ رائحةِ القِيرِ النَّذْرةِ
والمتكبِّرة، محروسٌ بالأقمارِ الكُهربيَّة
عندَ البحرِ الحيِّ بالكاد
المرفأ المنفسحُ الذي يغفو.
تعلو غمامةُ المداخن في صُعدائها
فيما المرفأ يغفو على القرقعة المتواصلةِ العَذبة
للحباليَّات: هيَ القوَّةُ تغفو،
تغفو إذ يهدهدُها حزنٌ غافلٌ
عن الأشياءِ التي سوفَ تكون،
والمرفأ المنفسحُ يتأرجحُ داخلَ إيقاعٍ مُضنَى
وها هيَ الغمامةُ
إذ تتشكَّلُ من القيءِ الهامدِ.
****
أوه أنتِ أيَّتها المرأةُ الصِّقِلِّيَّةُ العالية الشَّكيمة
الثَّريَّةُ والمتغطرسة
عند النَّوافذِ المُشرَعاتِ للرِّياح في الزُّقاقِ البحريِّ
في حضنِ المدينةِ الموقَّعةِ بأصواتِ المراكبِ والعربات،
أنتِ يا أنثى المرافئِ من نسلٍ متوسِّطيٍّ خالصٍ:
آه! عبرَ رماديِّ الأرديزيا الورديِّ الذي للمدينة
يرسلُ الصَّخبُ الغروبيُّ ألحانَه
قبلَ أن يهدأ في قلبِ الليلِ المُطمئنِّ:
رأيتُ عند النَّوافذ البرَّاقةِ كالنُّجوم
ظلالَ الأسَرِ البحريَّةِ وهيَ تعبُر: وسمعتُ
أغانٍ بطيئةً ومُبهَمةً تسري في عروقِ المدينةِ المتوسِّطيَّة:
ذلكَ أنَّ الليل كان يؤسِّسُ.
فيما ها أنتِ أيَّتها الصِّقِلِّيَّةُ،
عند البلَّورِ الغائرِ، في لَهوٍ باطلٍ
الظِّلُّ مُنَخْرَبٌ والضَّوءُ مُخَلخَل
أوه أيَّتها الصِّقِلِّيَّةُ العاليةُ الحَلَمات
إنْ أنتِ إلَّا ذلكَ الظِّلُّ الموصَد
يا محارةَ المساءاتِ المتوسِّطيَّة.
تُصلصلُ وتُصلصلُ وتُصلصل ببكراتِ السَّلاسل
في جوفِ الليلِ المُطمئنِّ
الرَّافعةُ الكُبرى عندَ المَرسى:
وداخلَ جوفِ الليلِ المُطمئنِّ
في الذِّراعِ المُمَعدَنة-
كانَ القلبُ يدقُّ بوجيبٍ أعلى قليلاً: أنتِ
أطفأتِ النَّافذة:
آه، معرَّىً وتصوُّفيَّاً ومقبَّبَاً للأعلى
اجتياحاً بعيونٍ لا متناهية كانَ الليلُ الأرضيُّ.
إلى المومس بعينيها الشَّبيهتين بالحديد
بعينيكِ البهيميَّتين الصَّغيرتين
تنظرين إليَّ وتصمُتينَ وتنتظرينَ ثمَّ تنكمشين،
ثمَّ تنظرينَ إليَّ وتصمُتين. لحمُكِ
الرَّديءُ والوافِرُ يغفو كَدِراً
في أحلامِهِ البدائيَّة. أيَّتها المومسُ.....
من استدعاكِ إلى الحياة؟ هل من مَوجٍ تجيئين؟
هل مِن وُسعِ مرافئَ إتروسكيَّة
أم مِن المدى التُّوسكانيِّ الرَّائع
أم مِن الرَّملِ المتَّقدِ الدَّائرِ على نفسِه
تحتَ رياحِ المتوسِّطِ كانت ولادتُكِ؟
الرَّحابةُ تدمغُ الغرابةَ
في وجهك الوحشيِّ الأشبه بخِلقةٍ خُرافيَّة
النَّفَسُ المتحشِّد للحياة
كما لو أنَّه يهبُّ على وجهِ لبؤةٍ
يتحرَّى لبدةَ شَعرِكِ الأسود،
وأنتِ تنظرينَ إلى الملاكِ الأشقر المدنِّس
الذي لا يحبُّكِ ولا تحبِّينَه، والذي يُكابدُ الآنَ
منكِ إذ يقَبِّلُكِ مُتعبَاً.
امرأة عابرة
تمضي. كأنَّ الحياةَ مفتوحةٌ
على العيونِ الرَّائقةِ والمُبهَمة!
تمضي تاركةً غموضَ أحلامٍ مُحقَّقة،
كان جنوناً في عُرفِنا أن نحلُمَها-
جليلٌ ومُستغرِقٌ هو الوقعُ الموسيقيُّ لخطوِها،
إذ يَتهجَّى طلاسمَ أحلامِها؛
جليلةً إيقاعيَّةً ومُستغرقةً، كانت تمضي.
وسطَ صخبِ العرباتِ المتقافزة والدَّاوية
تلاشى صفاؤها،
وها هوَ قلبي يتبعها عبر دربٍ بلا نهاية،
حيثُ يزهرُ الفِكرُ بنشيدِ الحُبِّ.
غيرَ أنَّ أفقاً شاحباً كانَ يأخذ الحياةَ في دائرته.
"أوه أيَّتها القصيدة، القصيدة، القصيدة"
أوه أيَّتها القصيدةُ، القصيدةُ، القصيدة
اصعَدي، اصعَدي، اصعَدي
خارجةً من الحُمَّى الكُهرُبيَّة للبِلاطِ الليليِّ.
اِجمَحي عنِ الصُّور الظِّلِّيَّةِ المُطاوِعة والغامضة،
تفلَّتي في النَّقلَةِ والصَّرخةِ المفاجئة
عالياً على الطَّلقِ النَّاريِّ المجهولِ والرَّتيب
لأصواتٍ كأنَّها عُبابٌ لا يعرفُ الكَلَل؛
هي ذي المومسُ الطَّالحُ تُعوِلُ عندَ مفرقِ الطُّرق،
ذلكَ أنَّ المتأنِّقَ سرقَ جَرْوَها،
لَكأنَّها جرادةٌ نطَّاطة إذ تتقافزُ الآنَ
من رصيفٍ إلى آخر خضراءَ بالكامِل،
فيما النَّخيرُ الحديديُّ للتِّرامِ الصَّامت يكشطُ نُخاعي-
لفتةٌ صاعقةٌ في العُلا، ولَّدت مطراً من النُّجوم،
من الخاصرةِ التي تميلُ وتتهدَّم تحتَ الضَّربِ المَهيبِ
في طيلسانٍ من الدَّمِ المُخمليِّ المُحْدِق؛
...ثمَّ هذا الصَّمت. نشِفاً ومُصِمَّاً يُعقِّبُ مسدَّسٌ ما،
إذ يستهلُّ ويختتمُ قدَراً آخَرَ.
اختارها وترجمها عن الإيطالية أمارجي: شاعر ومترجم سوريّ صدرت له أربع مجموعات شعرية وعدد من الترجمات لكبار الشعراء الإيطاليين.